Zorn Anders ( 1860-1920 ) & محمد الماغوط

جزر أمنية – محمد الماغوط

أظافري لا تخدش
أسناني لا تأكل
صوتي لا يسمع
دموعي لا تنهمر
أليست هذه بطالة مقنعة؟
***
الكل يقلع وأنا مازلت في المطار.
***
كل جراحي اعتراها القدم، وأصابها الإهمال
لم تعد دماؤها قانية
ولا آلامها مبرحة

ولا طعمها مستساغاً
ولا عمقها مقنعاً
الوحدة، الحرية، اليمين، اليسار، فلسطين، العراق، العرب،
العجم..
يجب إعادة جدولة همومي.
***
حافة القبعة تؤثر في رأس بوش الابن والأب والعم والخال
والخالة، أكثر مما تؤثر فيه كل المهرجانات والمسرحيات والمعلقات
العربية المعاصرة والجاهلية.
***
إنني أسمع بالعلق، ولكنني لم أره في حياتي!
من يمص دمي إذاً؟
***
لا تنحن لأحد مهما كان الأمر ضرورياً
فقد لا تؤاتيك الفرصة لتنتصب مرة أخرى
***
لماذا تنكيس الأعلام العربية فوق الدوائر الرسمية والسفارات
والقنصليات في الخارج، عند كل مصاب؟
إنها دائماً منكسة!
***
قد تحترق وتتصحر كل الغابات والأدغال في العالم إلا الغابات
والأدغال التي يعيش فيها المواطن العربي.
2
هل أبكي بدموع فوسفورية
حتى يعرف شعبي كم أتألم من أجله؟
***
خمسون عاماً وأنا أترنح
ولم أسقط حتى الآن
ولم يهزمني القدر
إلا بالنقاط والضربات الترجيحية!!
***
اتفقوا على توحيد الله، وتقسيم الأوطان.
***
كل السيول والفيضانات تبدأ بقطرات تتجمع من هنا وهناك إلا
عند العرب
يكون عندنا سيول وفيضانات
وتنتهي بقطرات تتفرق هنا وهناك.
***
أخي السائق:
لا تستعمل الزمور إلا في فترة الامتحانات،
أو التحضير لها.
***
الكل متفقون على بيع كل شيء
ولكنهم مختلفون على الأسعار!
ماذا أفعل بحصتي من فلسطين؟
هل أشتري بها شهادة استثمار؟.
***
عندما يتناول الصحافيون والإعلاميون العرب أي موضوع ولو
كان عن كسوف الشمس وخسوف القمر أو سقوط أحد المذنبات
المجهولة، لا بد وأن يتملقوا حكامهم، ويظهروا للقارئ أو للمستمع
دوراً لهم مهما كان صغيراً في هذه العجائب الكونية.
***
بعد اتكالنا على الغير في كل شيء سياسياً واقتصادياً وثقافياً
وحتى طائفياً قد يأتي يوم نعتمد فيه على غيرنا حتى في الإنجاب.
***
الصمود والتصدي:
صمود على الكراسي
والتصدي لكل من يقترب منها.
***
3
في الخمسينات والستينات كان السؤال الملح على الكاتب: ماذا
سيعطي لوطنه؟
أما السؤال الآن فهو: ماذا سيأخذ منه؟
***
حتى النسر يتثاءب في الفضاء
إذا كانت رحلته طويلة، والمناظر متشابهة من حوله.

 

سرير تحت المطر ـ شعر : محمد الماغوط

الحبُّ خطواتٌ حزينةٌ في القلب
والضجرُ خريفٌ بين النهدين
أيتها الطفلة التي تقرع أجراس الحبر في قلبي
من نافذة المقهى ألمح عينيك الجميلتين
من خلال النسيم البارد
أتحسَّسُ قبلاتكِ الأكثر صعوبةً من الصخر .
ظالمٌ أنت يا حبيبي
وعيناك سريران تحت المطر
ترفق بي أيها الالهُ الكستنائي الشعر
ضعني أغنيةً في قلبك
ونسراً حول نهديك

دعني أرى حبك الصغير
يصدحُ في الفراش
أنا الشريدُ ذو الأصابع المحرقه
والعيونُ الأكثر بلادة من المستنقع
لا تلمني إذا رأيتني صامتاً وحزيناً
فإنني أهواك أيها الصنمُ الصغير
أهوى شعرك ، وثيابك ، ورائحة زنديك الذهبيتين .
. . .
كن غاضباً أو سعيداً يا حبيبي
كن شهياً أو فاتراً ، فإنني أهواك .
يا صنوبرةً حزينة في دمي
من خلال عينيك السعيدتين
أرى قريتي ، وخطواتي الكئيبة بين الحقول
أرى سريري الفارغ
وشعري الأشقر متهدلاً على المنضده
كن شفوقاً بي أيها الملاك الوردي الصغير
سأرحلُ بعد قليل ، وحيداً ضائعاً
وخطواتي الكئيبه
تلتفت نحو السماء وتبكي .

وداع الموج ـ شعر : محمد الماغوط

في المرافئ المزدحمة ، يلهثُ الموج
في قعر السفينة يتوهجُ الخمر
وتُضاء النوافذ ،
والزبد الحريري يرنو إلى الأقدام المتعبه
ويتناثر على الحقائب الجميله
هنا بيتي ، وهناك سروتي وطفلي .
ابتعدي أيتها السفنُ الهرمه ،
يا قبوراً من الأجاص والبغايا
عودي إلى الصحراء المموجه
والقصور التي تفتح شبابيكها للسياط

إنني أتقدم في ضجة الميناء
أبحث عن محرمة زرقاء وامرأةٍ مهجورة
أرسل نحيبي الصامت
نحو الشارع القديم ، والحديقة المتشابكه
يدي تلوح للنهدين المتألقين تحت الأشجار
للأشعار الميتة في فمي .
. . .
سأبكي بحرارة
يا بيتي الجميل البارد
سأرنو إلى السقف والبحيرة والسرير
وأتلمس الخزانة والمرآة
والثياب البارده
سأرتجفُ وحيداً عند الغروب
والموتُ يحملني في عيونه الصافيه
ويقذفني كاللفافة فوق البحر .

القتل ـ شعر : محمد الماغوط

ضع قدمك الحجريةَ على قلبي يا سيدي
الجريمةُ تضرب باب القفص
والخوفُ يصدحُ كالكروان
ها هي عربةُ الطاغية تدفعها الرياح
وها نحن نتقدم
كالسيف الذي يخترقُ الجمجمه .
. . .
أيها الجرادُ المتناسلُ على رخام القصور والكنائس
أيتها السهولُ المنحدرة كمؤخرة الفرس
المأساةُ تنحني كالراهبه
والصولجان المذهَّبُ ينكسر بين الأفخاذ .

كانوا يكدحون طيلة الليل
المومساتُ وذوو الأحذية المدبَّبه
يعطرون شعورهم
ينتظرون القطار العائد من الحرب .
قطار هائل وطويل
كنهر من الزنوج
يئن في أحشاءِ الصقيع المتراكم
على جثث القياصرة والموسيقيين
ينقل في ذيله سوقاً كاملاً
من الوحل والثياب المهلهله
ذلك الوحل الذي يغمرُ الزنزانات
والمساجد الكئيبة في الشمال
الطائرُ الذي يغني يُزجُّ في المطابخ
الساقيةُ التي تضحك بغزاره
يُربَّى فيها الدود
تتكاثرُ فيها الجراثيم
كان الدودُ يغمر المستنقعات والمدارس
خيطان رفيعة من التراب والدم
وتتسلَّق منصّاتِ العبودية المستديره
تأكل الشاي وربطات العنق ، وحديد المزاليج
من كل مكان ، الدود ينهمرُ ويتلوى كالعجين ،
القمحُ ميت بين الجبال
وفي التوابيت المستعمله كثيراً
في المواخير وساحات الإعدام
يعبئون شحنه من الأظافر المضيئه إلى الشرق
وفي السهول التي تنبع بالحنطة والديدان …
حيث الموتى يلقون على المزابل
كانت عجلاتُ القطار أكثر حنيناً إلى الشرق ،
يلهث ويدوي ذلك العريسُ المتقدم في السن
ويخيط بذيله كالتمساح على وجه آسيا .
كانوا يعدّون لها منديلاً قانياً
في أماكنِ التعذيب
ومروحةً سميكةً من قشور اللحم في سيبريا ،
كثير من الشعراء
يشتهون الحبر في سيبريا .
. . .
البندقيةُ سريعةٌ كالجفن
والزناد الوحشي هاديءٌ أمام العينين الخضراوين
ها نحن نندفع كالذباب المسنّن
نلوِّحُ بمعاطفنا وأقدامنا
حيث المدخنةُ تتوارى في الهجير
وأسنان القطار محطّمة في الخلاء الموحش
الطفلةُ الجميلةُ تبتهل
والأسيرُ مطاردٌ على الصخر .
أنامُ وعلى وسادتي وردتان من الحبر
الخريفُ يتدحرج كالقارب الذهبي
والساعات المرعبه تلتهبُ بين العظام
يدي مغلقة على الدم
وطبقةٌ كثيفة من النواح الكئيب
تهدر بين الأجساد المتلاصقة كالرمل
مستاءةً من النداء المتعفّن في شفاه غليظه
تثير الغثيان
حيث تصطكُّ العيونُ والأرجل
وأنين متواصل في مجاري المياه
شفاه غليظة ورجال قساة
انحدروا من أكماتِ العنف والحرمان
ليلعقوا ماء الحياة عن وجوهنا
كنا رجالاً بلا شرفٍ ولا مال
وقطعاناً بربرية تثغو مكرهة عبر المآسي
هكذا تحكي الشفاه الغليظةُ يا ليلى
أنت لا تعرفينها
ولم تشمي رائحتها القويةَ السافله
سأحدثك عنها ببساطة وصدق وارتياح
ولكن
ألاَّ تكوني خائنة يا عطورَ قلبي المسكين
فالحبر يلتهب والوصمةُ ترفرف على الجلد .
. . .
غرفتي مطفأةٌ بين الجبال
القطيع يرفع قوائمه الحافيه
والأوراق المبعثرة تنتظر عندليبها
وندلفُ وراء بعضنا إلى المغسله
كجذوع الأشجار يجب أن نكون
جواميس تتأملُ أظلافها حتى يفرقع السوط
نمشي ونحن نيام
غفاة على البلاط المكسو بالبصاق والمحارم
نرقد على بطوننا المضروبة بأسلاك الحديد
ونشرب الشاي القاحلَ في هدوءٍ لعين
وتمضي ذبابة الوجود الشقراء
تخفقُ على طرف الحنجره
كنا كنزاً عظيماً
ومناهلَ سخيه بالدهن والبغضاء
نتشاجرُ في المراحيض
ونتعانق كالعشاق .
. . .
اعطني فمك الصغير يا ليلى
اعطني الحلمةَ والمدية اننا نجثو
نتحدثُ عن أشياء تافهه
وأخرى عظيمة كالسلاسل التي تصرُّ وراء الأبواب
موصدة .. موصدة هذه الأبواب الخضراء
المنتعشة بالقذاره
مكروهة صلده
من غماماتِ الشوق الناحبة أمامها
نتثاءبُ ونتقيأُ وننظر كالدجاجِ إلى الأفق
لقد مات الحنان
وذابت الشفقة من بؤبؤ الوحشِ الانساني
القابعِ وراء الزريبه
يأكل ويأكل
وعلى الشفة السفلى المتدلية آثار مأساة تلوح
أمي وأبي والبكاء الخانق
آه ما أتعسني إلى الجحيم أيها الوطن الساكن في قلبي
منذ اجيال لم أرَ زهره .
. . .
الليالي طويله والشتاءُ كالجمر
يومٌ واحد
وهزيمةٌ واحدة للشعب الأصفر الهزيل
انني ألمس لحيتي المدبَّبه
أحلم براحة الأرض وسطوح المنازل
بفتاةٍ مراهقةٍ ألعقها بلساني
السماء زرقاء
واليد البرونزيةُ تلمس صفحة القلب
الشفاهُ الغليظةُ تفرز الأسماء الدمويه
وأنا مستلقٍ على قفاي
لا أحدَ يزورني أثرثرُ كالأرمله
عن الحرب ، والأفلام الخليعة ، ونكران الذات
والخفير المطهَّم ، يتأمل قدميَ الحافيتين
وقفتُ وراء الأسوار يا ليلى
أتصاعد وأرتمي كأنني أجلس على نابض
وقلبي مفعمٌ بالضباب
ورائحة الأطفال الموتى
إن أعلامنا ما زالت تحترقُ في الشوارع
متهدلة في الساحات الضاربة إلى الحمره
كنت أتساقط وأحلم بعينيك الجميلتين
بقمصانك الورديه
والهجير الضائع في قبلاتكِ الأخيره
مرحباً بكِ ، بفمك الغامقِ كالجرح
بالشامة الحزينة على فتحةِ الصدر
أنا عبدٌ لك يا حبيبه
ترى كيف يبدو المطر في الحدائق ؟
ابتعدي كالنسيم يا ليلى
يجب ألا تلتقي العيون
هرم الانحطاطِ نحن نرفعه
نحن نشكُّ راية الظلم في حلقاتِ السلاسل
بالله لا تعودي
شيءٌ يمزقني أن أراهم يلمسونك بغلظه
أن يشتهوك يا ليلى
سألكمُ الحديد والجباه الدنيئه
سأصرخُ كالطفل وأصيح كالبغي
عيناكِ لي منذ الطفولة تأسرانني حتى الموت .
. . .
انطفأَ الحلم ، والصقرُ مطاردٌ في غابته
لا شيء يذكر
إننا نبتسمُ وأهدابنا قاتمةٌ كالفحم
هجعت أبكي أتوسَّل للأرض الميتة بخشوع
أوّاه لِم زرتني يا ليلى ؟
وأنت أشدُّ فتنةً من نجمة الشمال
وأحلى رواءً من عناقيد العسل
لا تكتبي شيئاً سأموتُ بعد أيام
القلبُ يخفق كالمحرمه
ولا تزال الشمس تشرق ، هكذا نتخيل
إننا لا نراها
على حافة الباب الخارجي
ساقيةٌ من العشب الصغير الأخضر
تستحمُّ في الضوء
وثمة أحذية براقة تنتقل على رؤوس الأزهار
كانت لامعة وتحمل معها رائحة الشارع ، ودور السينما
كانت تدوس بحريه
ووراء الباب الثالث
يقومُ جدارٌ من الوهم والدموع
جدار تنزلق من خلاله رائحة الشرق
الشرق الذليل الضاوي في المستنقعات
آه ، إنَّ رائحتنا كريهه
إننا من الشرق
من لك الفؤاد الضعيف البارد
إننا في قيلولةٍ مفزعةٍ يا ليلى
لقد كرهتُ العالم دفعة واحده
هذا النسيجَ الحشريَ الفتاك
وأنا أسير أمام الرؤوس المطرقة منذ شهور
والعيون المبلَّلة منذ بدء التاريخ
ماذا تثير بي ؟ لا شيء
إنني رجلٌ من الصفيح
أغنية ثقيلة حادة كالمياه الدفقه
كالصهيل المتمرد على الهضبه .
هضبة صفراء ميتة تشرق بالألم والفولاذ
فيها أكثرُ من ألف خفقة جنونية
تنتحبُ على العتبات والنوافذ
تلتصقُ بأجنحة العصافير
لتنقل صرخةَ الأسرى وهياج الماشيه
من نافذة قصرك المهدمة ، ترينها يا ليلى
مرعبة ، سوداء في منتصف الليل
ومئات الأحضان المهجورة تدعو لفنائها
وسقوطِ هامتها
وردمها بالقشِّ والتراب والمكانس
حتى لو قدِّر للدموع الحبيسة بين الصحراء والبحر
أن تهدرَ أن تمشي على الحصى
لازالتها تلك الحشرةُ الزاحفةُ إلى القلب
بالظلم والنعاس يتلاشى كل أثر
بالأنفاس الكريهه
والأجساد المنطوية كالحلزونات
بقوى الأوباش النائمة بين المراحيض
سنبني جنينة للأطفال
وبيوتاً نظيفه ، للمتسكعين وماسحي الأحذيه .
. . .
أتى الليل في منتصف أيار
كطعنةٍ فجائية في القلب
لم نتحركْ
شفاهنا مطبقةٌ على لحن الرجولة المتقهقر
في المقصورات الداخلية ثمة عويل يختنق
ثمة بساطة مضحكة في قبضة السوط
الأنوارُ مطفأة .. لماذا ؟
القمرُ يذهب إلى حجرته
وشقائق النعمان تحترق على الاسفلت
قشٌّ يلتهبُ في الممرات
وصريرُ الحطب يئنُّ في زوايا خفيه
آلاف العيون الصفراء
تفتِّشُ بين الساعات المرعبة العاقة
عن عاهرةٍ ، اسمها الانسانية
والرؤوس البيضاء ، مليئة بالأخاديد
يا رب تشرق الشمس ، يا إلهي يطلع النجم
دعه يغني لنا إننا تعساء
عذبْنا ما استطعت
القملُ في حواجبنا
وأنت يا ليلى لا تنظري في المرآة كثيراً
أعرفك شهيةً وناضجه
كوني عاقلة وإلا قتلتك يا حبيبه .
. . .
لتشرق الشمس
لتسطع في إلية العملاق
الحدأة فوق الجبل
الغربةُ جميلةٌ ، والرياحُ الزرقاء على الوساده
كانت لها رائحة خاصه
وطعم جيفيّ حار ، دعه
ملايين الابر تسبح في اللحم .
. . .
أين كنتَ يوم الحادثه ؟
كنت ألاحقُ امرأةً في الطريق يا سيدي
طويلةً سمراء وذات عجيزة مدملجه
إنني الوحيد الذي يمرُّ في الشارع دون أن يحييه أحد
دعني لا أعرف شيئاً
اطلقْ سراحي يا سيدي أبي مات من يومين
ذاكرتي ضعيفه ، وأعصابي كالمسامير .
. . .
أنا مغرمٌ بالكسل
بعدة نساءٍ على فراشٍ واحد
الجريمة تعدو كالمهر البري
وأنا مازلت ألعقُ الدم المتجمدَ على الشفة العليا
مالحاً كان ، من عيوني يسيل
من عيون أمي يسيل
سطّحوه على الأرض
الأشرعة تتساقط كالبلح
لقد فات الأوان
إنني على الأرض منذ أجيال
أتسكع بين الوحوش والأسنان المحطمه
أضربه على صدره إنه كالثور
سفلَه ، دعني آكل من لحمه
بشدةٍ كان الألم يتجه في ذراعي
بشدة ، بشدة ، نحن عبيد يا ليلى
كنت في تلك اللحظه
أذوق طعم الضجيج الانساني في أقسى مراحله
مئات السياط والأقدام اليابسه
انهمرتْ على جسدي اللاهث
وذراعي الممددة كالحبل
كنت لا أميّزُ أيَّ وجهٍ من تلك الوجوه
التي نصادفها في السوق والباصات والمظاهرات
وجوهٌ متعطشةٌ نشوى
على الصدر والقلب كان غزالُ الرعب يمشي
بحيرة التماسيح التي تمرُّ بمرحلة مجاعه
مجاعة تزدردُ حتى الفضيله
والشعورَ الالهي المسوَّس
لقد فقدنا حاسة الشرف
أمام الأقدام العاريةِ والثياب الممزقه
أمام السياط التي ترضعُ من لحم طفلةٍ بعمر الورد
تجلد عاريةً أمام سيدي القاضي
وعدة رجال ترشحُ من عيونهم نتانةُ الشبق
والهياجُ الجنسي
وجوه طويلة كقضبان الحديد
تركتني وحيداً في غرفة مقفلةٍ ، أمضغ دمي
وأبحث عن حقد عميق للذكرى .
النجيع ينشدُّ على طرف اللسان
والغرابُ ينهض إلى عشّه
الألمُ يتجول في شتى الأنحاء
والمغيص يرتفع كالموج حتى الهضبه
كادت تنسحب من هذا النضال الوحشي
من هذا المغيص المروع
رأسي على حافة النافوره
وماؤها الفضي يسيلُ حزينا على الجوانب
من وراء المياه والمرمر
يلوحُ شعرُ قاسيون المتطاير مع الريح
وغمامةٌ من المقاهي
والحانات المغرورقة بالسكارى
تلوح بنعومة ورفقٍ عبر السهول المطأطئة الجباه
لم يعد يورقُ الزيتون
ولم تدرْ المعاصر ، كلهم أذلاء
وأضلاعي تلتهبُ قرب البحيره
إنها تسقي الزهور ، أنا عطشان يا سيدي
في أحشاء الصحراء
أنقذني يا قمر أيار الحزين .
. . .
استيقظي أيتها المدينة المنخفضه
فتيانك مرضى ،
نساؤك يجهضن على الأرصفه
النهد نافر كالسكين
أعطني فمك ، أيتها المتبرجةُ التي تلبس خوذه
. . .
بردى الذي ينساب كسهلٍ من الزنبق البلوري
لم يعد يضحك كما كان
لم أعد أسمع بائع الصحف الشاب
ينادي عند مواقف الباصات
الحرية منقوشةٌ على الظهر
واللجام مليءٌ بالحموضه .
ضعْ قدمك الحجريةَ على قلبي يا سيدي
الريحُ تصفر على جليد المعسكرات
وثمة رجل هزيل ، يرفع ياقته
يشرب القهوه
ويبكي كإمرأةٍ فقدت رضيعها
دعْ الهواء الغريب
يكنس أقواسَ النصر ، وشالات الشيوخ والراقصات
إنهم موتى
حاجز من الأرق والأحضان المهجوره
ينبت أمام الخرائب والثياب الحمراء
وفاه ذئابٍ القرون العائدة بلا شاراتٍ ولا أوسمه
تشقَّ طريقها على الرمال البهيجة الحاره
لا شيء يُذكر الأرض حمراء
والعصافير تكسر مناقيرها على رخام القصر .
وداعا ، وداعاً اخوتي الصغار
أنا راحلٌ وقلبي راجعٌ مع دخان القطار .

كرسي الاعتراف – محمد الماغوط

والريح تعصف والثلج يتساقط من حولي
جلست في كوخي الشعري المتواضع
ودفنت كستنائي العاطفية والجسدية والتاريخية
ورحت أنتظر
***
يا رب…
ساعدني على قول الحق
ومواجهة الواقع
وتحمّل العطش
والجوع
والحرمان
وألا أردّ سائلاً
أو أنهر يتيماً
أو استرداد نفقات الأمل على الأمل.
2
يد واحدة لا تصفق
إلى الجحيم
ألم تشبعوا تصفيقاً بعد؟
*
ترميم زهرة
أو اقتحام قاعة
كله سيّان
*
أسناني بصلابة منجلي
وألتحف حقولي وسنابلي
وأنام على الطوى…
*
دموعي بعدد أخطائي
وأخطائي بعدد التزاماتي
*
وشجاعتي بعدد أسلحتي
وتردّدي بعدد جبهاتي
*
وساعات نومي بعدد كوابيسي
وكوابيسي بعدد وسائدي واتساع بلادي
وبلادي باتساع أرصفتي ودفاتري.

الليل والأزهار ـ شعر : محمد الماغوط

كان بيتنا غاية في الاصفرار
يموتُ فيه المساء
ينام على أنين القطارات البعيده
وفي وسطه
تنوح أشجارُ الرمَّان المظلمةُ العاريه
تتكسَّر ولا تنتج أزهاراً في الربيع
حتى العصافير الحنونه
لا تغرد على شبابيكنا
ولا تقفز في باحة الدار .
وكنت أحبكِ يا ليلى
أكثر من الله والشوارع الطويله

وأتمنى أن أغمسَ شفتيك بالنبيذ
وألتهمك كتفاحةٍ حمراء على منضده .
. . .
ولكنني لا أستطيع أن أتنهَّدَ بحريه
أن أرفرفَ بك فوق الظلام والحرير
إنهم يكرهونني يا حبيبه
ويتسربون إلى قلبي كالأظافر
عندما أريد أن أسهرَ مع قصائدي في الحانه
يريدونني أن أشهر الكلمه
أمام الليل والجباه السوداء
أن أجلد حروفي بالقملِ والغبار والجرحى
إنني لا أستطيعُ يا حبيبه
وفؤادي ينبضُ بالعيون الشهل
وبالسهرات الطويلة قرب البحر
أن أبني لهم إمبراطورية ترشحُ بالسعالِ والمشانق
أنا طائرٌ من الريف
الكلمة عندي أوزةٌ بيضاء
والأغنيةٌ بستانٌ من الفستق الأخضر

حريق الكلمات ـ شعر : محمد الماغوط

سئمتك أيها الشعر ، أيها الجيفةُ الخالده
لبنان يحترق
يثب كفرس جريحة عند مدخلِ الصحراء
وأنا أبحثُ عن فتاة سمينه
أحتكُّ بها في الحافله
عن رجلٍ عربي الملامح ، أصرعه في مكانٍ ما .
بلادي تنهار
ترتجفُ عاريةً كأنثى الشبل
وأنا أبحث عن ركنٍ منعزل
وقرويةٍ يائسة ، أغرّر بها .
يا ربة الشعر

أيتها الداخلةُ إلى قلبي كطعنة السكين
عندما أفكر ، بأنني أتغزَّل بفتاة مجهوله
ببلادٍ خرساء
تأكلُ وتضاجعُ من أذنيها
أستطيع أن أضحك ، حتى يسيل الدم من شفتيَّ
أنا الزهرة المحاربه ،
والنسرُ الذي يضرب فريسته بلا شفقه .
. . .
أيها العرب ، يا جبالاً من الطحين واللذَّه
يا حقول الرصاص الأعمى
تريدون قصيدةً عن فلسطين ،
عن الفتحِ والدماء ؟
أنا رجلٌ غريبٌ لي نهدان من المطر
وفي عينيَّ البليدتين
أربعةُ شعوبٍ جريحة ، تبحث عن موتاها .
كنت جائعاً
وأسمع موسيقى حزينه
وأتقلب في فراشي كدودة القز
عندما اندلعتْ الشرارة الأولى .
. . .
أيتها الصحراء … إنك تكذبين
لمن هذه القبضةُ الأرجوانيه
والزهرةُ المضمومةُ تحت الجسر ،
لمن هذه القبورُ المنكّسة تحت النجوم
هذه الرمالُ التي تعطينا
في كل عام سجناً أو قصيده ؟
عاد البارحةَ ذلك البطل الرقيق الشفتين
ترافقه الريحُ والمدافع الحزينه
ومهمازه الطويل ، يلمع كخنجرين عاريين
أعطوه شيخاً أو ساقطه
أعطوه هذه النجوم والرمال اليهوديه .
. . .
هنا ..
في منتصف الجبين
حيث مئاتُ الكلمات تحتضر
أريد رصاصةَ الخلاص
يا إخوتي
لقد نسيت حتى ملامحكم
أيتها العيونُ المثيرة للشهوة
أيها الله …
أربع قاراتٍ جريحة بين نهديّ
كنت أفكر بأنني سأكتسح العالم
بعيني الزرقاوين ، ونظراتي الشاعره .
. . .
لبنان .. يا امرأةً بيضاء تحت المياه
يا جبالاً من النهود والأظافر
إصرخْ أيها الأبكم
وارفعْ ذراعك عالياً
حتى ينفجر الابط ، واتبعني
أنا السفينةُ الفارغه
والريحُ المسقوفة بالأجراس
على وجوه الأمهات والسبايا
على رفات القوافي والأوزان
سأطلق نوافير العسل
سأكتب عن شجرةٍ أو حذاء
عن وردة أو غلام
ارحلْ أيها الشقاء
أيها الطفلُ الأحدبُ الجميل
أصابعي طويلة كالإبر
وعيناي فارسان جريحان
لا أشعارَ بعد اليوم
إذا صرعوك يا لبنان
وانتهت ليالي الشعر والتسكع
سأطلقُ الرصاص على حنجرتي .

جناح الكآبة ـ شعر : محمد الماغوط

مخذولٌ أنا لا أهل ولا حبيبه
أتسكعُ كالضباب المتلاشي
كمدينةٍ تحترقُ في الليل
والحنين يلسع منكبيّ الهزيلين
كالرياح الجميله ، والغبار الأعمى
فالطريقُ طويله
والغابةُ تبتعدُ كالرمح .
. . .
مدّي ذراعيك يا أمي
أيتها العجوزُ البعيدةُ ذات القميص الرمادي
دعيني ألمس حزامك المصدَّف
وأنشج بين الثديين العجوزين
لألمس طفولتي وكآبتي .
الدمعُ يتساقط
وفؤادي يختنق كأجراسٍ من الدم .
فالطفولة تتبعني كالشبح
كالساقطة المحلولة الغدائر .

غوطالرجل الميت ـ شعر : محمد الماغوط

أيتها الجسورُ المحطّمة في قلبي
أيتها الوحولُ الصافيةُ كعيون الأطفال
كنا ثلاثه
نخترق المدينةَ كالسرطان
نجلسُ بين الحقول ، ونسعلُ أمام البواخر
لا وطنَ لنا ولا سياط
نبحثُ عن جريمةٍ وامرأة تحت نور النجوم
وأقدامُنا تخبُّ في الرمال
تفتحُ مجاريرَ من الدم
نحن الشبيبة الساقطه
والرماح المكسورة خارج الوطن
من يعطينا شعبا أبكماً نضربه على قفاه كالبهائم ؟
لنسمعَ تمزُّق القمصان الجميله
وسقسقةَ الهشيم فوق البحر
لنسمعَ هذا الدويّ الهائل
لستةِ أقدام جريحة على الرصيف
حيث مئةُ عام تربضُ على شواربنا المدمَّاة
مئة عام والمطر الحزين يحشرجُ بين أقدامنا .
. . .
بلا سيوفٍ ولا أمهات
وقفنا تحت نور الكهرباء
نتثاءبُ ونبكي
ونقذف لفائفنا الطويلةَ باتجاه النجوم
نتحدثُ عن الحزن والشهوه
وخطواتِ الأسرى في عنقِ فيروز
وغيوم الوطن الجاحظه
تلتفتُ إلينا من الأعالي وتمضي ..
يا ربّ
أيها القمرُ المنهوك القوى
أيها الإلهُ المسافرُ كنهدٍ قديم
يقولون أنك في كل مكان
على عتبة المبغى ، وفي صراخِ الخيول
بين الأنهار الجميله
وتحت ورقِ الصفصاف الحزين
كن معنا في هذه العيون المهشمه
والأصابع الجرباء
أعطنا امرأه شهيه في ضوء القمر
لنبكي
لنسمعَ رحيل الأظافر وأنين الجبال
لنسمعَ صليل البنادق من ثدي امرأة .
ما من أمةٍ في التاريخ
لها هذه العجيزةُ الضاحكه
والعيونُ المليئةُ بالأجراس .
. . .
لعشرين ساقطة سمراء ، نحملُ القمصان واللفائف
نطلّ من فرجات الأبواب
ونرسل عيوننا الدامعة نحو موائد القتلى
لعشرين غرفة مضاءةٍ بين التلال
نتكىءُ على المدافع
ونضع ذقوننا اللامعة فوق الغيوم .
ابتسمْ أيها الرجلُ الميت
أيها الغرابُ الأخضرُ العينين
بلادُك الجميلةُ ترحل
مجدك الكاذبُ ينطفئُ كنيران التبن
فتح ساقيك الجميلتي .. لنمضي ..
لنسرع إلى قبورنا وأطفالنا
المجدُ كلماتٌ من الوحل
والخبزُ طفلةٌ عاريةٌ بين الرياح .
. . .
يا قلبي الجريح الخائن
أنا مزمارُ الشتاء البارد
ووردةُ العار الكبيره
تحت ورق السنديان الحزين
وقفتُ أدخن في الظلام
وفي أظافري تبكي نواقيس الغبار
كنت أتدفقُ وأتلوى
كحبلٍ من الثريات المضيئة الجائعه
وأنا أسير وحيداً باتجاه البحر
ذلك الطفل الأزرق الجبان
مستعداً لارتكاب جريمة قتل
كي أرى أهلي جميعاً وأتحسسهم بيدي
أن أتسكعَ ليلةً واحده
في شوارعِ دمشق الحبيبه .
. . .
يا قلبي الجريح الخائن
في أظافري تبكي نواقيسُ الغبار .
هنا أريد أن أضعَ بندقيتي وحذائي
هنا أريد أن أحرقَ هشيم الحبر والضحكات
أوربا القانية تنزفُ دماً على سريري
تهرولُ في أحشائي كنسرٍ من الصقيع
لن نرى شوارع الوطن بعد اليوم
البواخرُ التي أحبها تبصقُ دماً وحضارات
البواخر التي أحبها تجذبُ سلاسلها وتمضي
كلبوةٍ تجلد في ضوء القمر
يا قلبي الجريح الخائن
ليس لنا إلا الخبز والأشعار والليل
وأنت يا آسيا الجريحه
أيتها الوردةُ اليابسةُ في قلبي
الخبز وحده يكفي
القمح الذهبيُّ التائهُ يملأُ ثدييك رصاصاً وخمرا

أضف تعليق