قصائد نزار قباني

قصيدة ضد كل شيء -شعر : نزار قباني

لا يمكنني أن أبقى طول حياتي
مسمارا مدقوقا في جسد الوطن ..
و في جسد اللغة
أو في جسد حبيبتي
إنني أنتمي إلى طبقة من الشعراء
يستحيل تصنيفهم
و إلى نوع من الخيول العربية
ليس لها مالك ..
و إلى نوع من الطيور الجارحة
يستحيل تدجينها
و إلى نوع من الأشجار لا تموت إلا وهي واقفة
و إلى فصيلة من الأرانب المتوحشة
لا تنام إلا في أحضان النساء ! !

ـ 2 ـ

من رحم الحرية ولدت
وفي رحم الحرية سأدفن
هذه باختصار .. هي سيرتي الذاتية

ـ 3 ـ

لا يمكن لأي نظام
أن يلقي القبض على قصائدي
لأنها مدهونة بزيت الحرية ! !

ـ 4 ـ

منذ أن نزلت من بطن أمي
و أنا أحترف التحريض
و أحرض اللغة على مفرداتها
و النص على كتابه
و الشفة على كَرَزِهَا
و العيون على سوادها
و الأساور على معاصمها
و الأنوثة على أنوثتها

ـ 5 ـ

القصائد التي أكتبها ..
لا تشبه أحدا
لا تشبه قصائد جرير
أو طرفة بن العبد
أو العباس بن الأحنف
أو عروة بن ورد
أو جميل بثينة
إنها تشبهني وحدي
بعيني الزرقاوين
و شعري المغطى بالثلوج
و أصابعي التي أحرقتها السجائر
و لغتي التي أخذتها عن عصافير
الشام ….

ـ 6 ـ

كتابة قصيدة حب
في الوطن العربي
تشبه حكاية قميص من الحرير
لأجساد …
تعودت أن تلبس الخيش ! !

ـ 7 ـ

كلما تغزلت بامرأة جميلة
و أهديتها زهرة ياسمين
جاء عمال البلدية في اليوم الثاني
فاقتلعوها ..
و بنوا في مكانها سجنا للنساء

ـ 8 ـ

ما بوسع الشعر أن يفعل ؟
إن العلم العربي
يحتاج إلى ملون شاعر ..

ـ 9 ـ

لا أعتذر عن أية قصيدة نشرتها
فالشاعر يتجمل بأخطائه ..
و يكررها ..
كما يكرر البحر زرقته
و القمر بياضه
و الوردة أريجا
و المرأة ماكياجها اليومي

ـ 10 ـ

لا أحي قصائدي
التي تلبس السترة الواقية من الرصاص
و تضع في جيبها بوليصة التأمين ..
و تكون بردا .. و سلاما ..
على من يقرأونها ..

ـ 11 ـ

أحب قصائدي
التي تعصف .. و تفتك ..
و ترج طمأنينة الدراويش ..
و توصلني ..
مرة إلى غرفة الإنعاش
و مرة إلى النيابة العامة
و مرة إلى حبل المشنقة

ـ 12 ـ

أنا لا أصنع لكم بشعري
كراسي هزازة ..
من أجل قيلولتكم
إنني أصنع لكم وسائد
محشوة بالأعاصير ..
و دبابيس القلق
و سكاكين الأسئلة ! ..

ـ 13 ـ

القصيدة …
ليست مضيفة طيران
مهمتها الترفيه عن المسافرين
ولكنها …
امرأة انتحارية ..
تخطط لخطف الطائرة …

ـ 14 ـ

لكل امرأة جديدة …
أكتب قصيدة جديدة
ليس عندي ثياب جاهزة
لكسوة كل نساء القبيلة ! !

ـ 15 ـ

إنني لم أرث حبيباتي
عن عمر بن أبي ربيعة
و لا عن سواه من الشعراء الغزليين ..
فأنا أعجن نسائي بيدي ..
كفطائر العسل
و أسبكهن في مختبري
كدنانير الفضة ..
إنني في شؤون الحب
لا أومن باستعارة النساء من الآخرين ..
و لا أقبل أن أعشق امرأة
تأتيني عن الهبة أو .. الوصية
أو الخلعة الأميرية ..
و إنني في كل خياراتي الشعرية ..
و العطفية
أرفض استعمال المستعمل ! ! .

ـ 16 ـ

ثمة رجال مثقفون ..
عندما يجلسون مع المرأة ..
يتصرفون كأميين ..
و يتأتئون عل سرير الحب
كأنهم لا يعرفون القراءة
و لا الكتابة ! ! .

ـ 17 ـ

القصيدة ..
التي لا تنزف عن أصابع قرائها
مصابة بفقر الدم ..

ـ 18 ـ

منذ أن أصبح الوطن ..
لا يأكل سوى الخوف ..
و لا يتقيأ سوى الزجاج .. و المسامير ..
توقفت في الشعر ..
عن صناعة الشوكولاتة ..

ـ 19 ـ

( أعمالي الشعرية الكاملة )
لم تكتمل ..
و لن تكتمل أبدا ..
طالما أن الأصابع لا تزال ترتعش
و القلب لا يزال مستنفرا
و أمطار الكحل لا تزال تنهمر ..
و الهاتف لا يزال يرن ..
و البريد لا يزال يصل ..
و النساء الجميلات ..
لا يزلن في غرفة الانتظار ! ! .

ـ 20 ـ

بيني وبين الشعب العربي
ميثاق شرف
عمره خمسون عاما
كل المواثيق الأخرى
التي تحمل إمضاء أبي لهب ..
أكلها اللهب ! ! .

ـ 21 ـ

يبقى الجمهور العربي
ثروتي القومية
و لو أنني غامرت بهذا الرصيد العظيم
لأعلنت محكمة الشعر إفلاسي ..
و ختمت قصائدي
بالشمع الأحمر …

ـ 22 ـ

لم أتناول العشاء أبدا ..
على مائدة أي سلطان ..
أو جنرال
أو أمير
أو وزير
إن حاستي السادسة كانت تنبئني
دائما ..
أن العشاء مع هؤلاء
سوف يكون العشاء الأخير ! !

في المقهى – شعر : نزار قباني

جواري اتخذت مقعدها
كوعاء الورد في اطمئنانها
وكتاب ضارع في يدها
يحصد الفضلة من إيمانها
يثب الفنجان من لهفته
في يدي ، شوقا إلى فنجانها
آه من قبعة الشمس التي
يلهث الصيف على خيطانها
جولة الضوء على ركبتها
زلزلت روحي من أركانها
هي من فنجانها شاربة وأنا أشرب من أجفانها
قصة العينين .. تستعبدني
من رأى الأنجم في طوفانها
كلما حدقت فيها ضحكت
وتعرى الثلج في أسنانها
شاركيني قهوة الصبح .. ولا
تدفني نفسك في أشجانها
إنني جارك يا سيدتي
والربى تسأل عن جيرانها
من أنا .. خلي السؤالات أنا
لوحة تبحث عن ألوانها
موعدا .. سيدتي! وابتسمت
وأشارت لي إلى عنوانها..
وتطلعت فلم ألمح سوى
طبعة الحمرة في فنجانها

من قتل الإمام ؟
المخبرون يملأون غرفتي
من قتل الإمام ؟
أحذية الجنود فوق رقبتي
من قتل الإمام ؟
من طعن الدرويش صاحب الطريقة
و مزق الجبة .. و الكشكول .. و المسبحة الأنيقة
يا سادتي :
لا تقلعوا أظافري .. بحثا عن الحقيقة
في جثة القتيل .. دوما .. تسكن الحقيقة
ـ 2 ـ

من قتل الإمام ؟
عساكر بكامل السلاح يدخلون ..
عساكر بكامل السلاح يخرجون ..
محاضر ..
آلات تسجيل ..
مصورون ..
يا سادتي ..
ما النفع من إفادتي ؟
ما دمتم ـ إن قلت أو ما قلت ـ
سوف تكتبون
ما تنفع استغاثتي ؟
ما دمتم ـ إن قلت أو ما قلت ـ
سوف تضربون
ما دمتم … منذ حكمتم بلدي
عني تفكرون ..

ـ 3 ـ

لست شيوعيا ـ كما قيل لكم ـ
يا سادتي الكرام
و لا يمينيا كما قيل لكم ـ
يا سادتي الكرام ..
مسقط رأسي في دمشق الشام
هل واحد من بينكم ؟
يعرف أين الشام ؟
هل واحد من بينكم ؟
أدمن سكنى الشام ؟
رواه ماء الشام
كواه عشق الشام
تأكدوا يا سادتي ..
لن تجدوا ..
في أسواق الورود وردة كالشام
و في دكاكين الحُلي جميعها
لؤلؤة كالشام
لن تجدوا حزينة العينين .. مثل الشام

ـ 4 ـ

لست عميلا قذرا
ـ كما يقول مخبروكم ـ سادتي الكرام
و لا سرقت قمحة
و لا قتلت نملة
و لا دخلت مركز بوليس .. يوما ..
سادتي الكرام
يعرفني في حارتي الصغير و الكبير
يعرفني الأطفال و الأشجار و الحمام
و أنبياء الله يعرفونني
عليهم الصلاة و السلام
الصلوات الخمس لا أقطعها
يا سادتي الكرام
و خطبة الجمعة لا تفوتني
يا سادتي الكرام
و غير ثديي زوجتي لا أعرف الحرام
في ربع قرن و أنا
أمارس الركوع و السجود
أمارس القيام و القعود
أمارس التشخيص خلف حضرة الإمام
يقول : ( اللهم امحق دولة اليهود )
أقول : ( اللهم امحق دولة اليهود )
يقول : ( اللهم شتت شملهم )
أقول : ( اللهم شتت شملهم )
يقول : ( اللهم اقطع نسلهم )
أقول : ( اللهم اقطع نسلهم )
يقول : ( اعزق حرثهم و زرعهم )
أقول : ( اعزق حرثهم و زرعهم )
و هكذا يا سادتي الكرام
قضيت عشرين سنة ..
أعيش في حضيرة الأغنام
أعلف كالأغنام
أنام كالأغنام
أبول كالأغنام
أدور كالحبة في مسبحة الإمام
أعيد كالببغاء ،
كل ما يقول حضرة الإمام
لا عقل لي ..
لا رأس ..
لا أقدام ..
أستنشق الزكام من لحيته
و السل من العظام
قضيت عشرين سنة
مكوما ..
كرزمة القش على السجادة الحمراء
أُجلد كل جمعة بخطبة غراء
أبتلع البيان ، و البديع ،
و القصائد العصماء
أبتلع الهراء ..
عشرين عاما ..
و أنا يا سادتي
أسكن في طاحونة
ما طحنت ـ قط ـ سوى الهواء ..

ـ 5 ـ

يا سادتي !
بخنجري هذا الذي ترونه
طعنته ..
في صدره و الرقبة
طعنته ..
في عقله المنخور مثل الخشبة
طعنته باسم أنا
و اسم الملايين من الأغنام
يا سادتي
أعرف أن تهمتي
عقابها الإعدام
لكنني
قتلت إذا قتلته
كل الصراصير التي تنشد في الظلام
و المسترخين على أرصفة الأحلام
قتلتُ إذا قتلته
كل الطفيليات في حديقة الإسلام
كل الذين يطلبون الرزق ..
من دُكَّانَةِ الإسلام
قتلت إذا قتلته
يا سادتي الكرام
كل الذين منذ ألف عام
يزنون بالكلام .

من قتل مدرس التاريخ – شعر : نزار قباني

من أين يأتينا الفرح ؟
و لوننا المفضل السواد
نفوسنا سواد
عقولنا سواد
داخلنا سواد
حتى البياض عندنا
يميل إلى السواد …

ـ 2 ـ

من أين يأتينا الفرح ؟ و كل ما يحدث في حياتنا
مسلسل استبداد
الوطن استبداد
و الهجرة استبداد
و الصحف الرسمية استبداد
و الشرطة السرية استبداد
و الزوجة استبداد
و عشقنا لامرأة جميلة جدا
هو استبداد ! !

ـ 3 ـ

من أين يأتينا الفرح ؟
و كل طفل عندنا تجري على ثيابه
دماء كربلاء ..
و الفكرفي بلادنا
أرخص من حذاء …
و غاية الدنيا لدينا :
الجنس … و النساء ! !

ـ 4 ـ

من أين يأتينا الفرح ؟
و نحن من يوم تخاصمنا
على النسوان في غرناطة ..
تفككت أمتنا ..
و هرهرت دولتنا
و طارت بلادنا ! !

ـ 5 ـ

الشجر الأطول في بلادي
شجر الأحفاد !ّ! ..

ـ 6 ـ

يدهشني
بأن كل وردة في وطني
تلبس في زفافها
ملابس الحداد ..

ـ 7 ـ

ليس لدينا أمة خالدة
أو دولة واحدة
و إنما أفراد …

ـ 8 ـ

هل هذه جرائد تقرؤها ؟
أم أنها جنازة
و دعوة للحزن و الحداد

ـ 9 ـ

نصوصنا منقولة
أصواتنا ..
تخرج من حناجر الأجداد ..

ـ 10 ـ

أكره ( ألف ليلة ) ..
و أكره النوم كمجدوب
على دراع شهرزاد …

ـ 11 ـ

من أين يأتينا الفرح ؟
أطفالنا ما شاهدوا في عمرهم
قوس قزح …

ـ 12 ـ

من أين يأتينا الفرح ؟
و نحن من يوم خرجنا من فلسطين
و من ذاكرة الليمون ، و الخوخ ،
تحولنا إلى رماد …

ـ 13 ـ

و نحن من يوم تركنا بحر بيروت
تركنا خلفنا
أثداء أمهاتنا
وورد ذكرياتنا
وبيت حرياتنا
كما تركنا خلفنا ،
شهادة الميلاد …

ـ 14 ـ

لقد أكلنا بعضنا بعضا
فهل تعذرنا الأسماك و الجراد ؟ …

ـ 15 ـ

حتى ثياب الله في بلادنا
تباع بالمزاد ! ! …

ـ 16 ـ

من أين يأتينا الفرح ؟
ما طار طير عندنا إلا انذبح ..
و لا نبي جاءنا
إلا بأيدينا انذبح ..
و لا أتانا مصلح .. أو مبدع ..
أو كاتب .. أو شاعر ..
إلا على وسادة الشعر .. انذبح !!

ـ 17 ـ

محرم في وطني
تنقل الهواء ..
محرم تنقل الكحلة
في أعين النساء ..
محرم تنقل القيدة ..
محرم .. محرم ..
تنقل الأفعال .. و الأسماء

ـ 18 ـ

يَرْتَعِبُ الحكام
في العلم الثالث ، من صوت العصافير
و من ضَوْعِ الأزاهير
و من زرقة الحمام ..
و يدخلون البحر للسجن إذا أسرف في الكلام
صعب على الحكام في عالمنا الثالث
أن يصالحوا الفكر ..
و أن يصادقوا الأقلام ..
هل يستطيع الذئب أن يصادق الأغنام ؟؟

ـ 19 ـ

في سالف الزمان .. كنا
أمراء الشعر ، و البيان ، و البديع ، و الخطابة
و أصبحت مهمتنا الآن ..
بأن نفترس الكتابة !!

ـ 20 ـ

أول قصر من قصور العلم و الثقافة
أسسه الخليفة المأمون
و جاء حكام إلى بلادنا ، من بعده
تخصصوا في مهنة القتل ..
و في هندسة السجون !!

ـ 21 ـ

في زمن الطفولة
قرأت آلاف الأقاصيص
عن النخوة .. و النجدة .. و العزة
و الإباء .. و الفداء .. و السخاء .. و الشجاعة
ثم اكتشفت عندما دخلت في الكهولة
بأن نصف ما قرأته في حصة التاريخ ،
ما كان سوى إشاعة …

قراءة ثانية في مقدمة ابن خلدون – شعر : نزار قباني

هذا هو التاريخ, يا صديقتي
من غير ما تعليق
وكل ما قرأت عن سيرتنا العطرة
من كرم..
ونجدة..
و نخوة..
و العفو عند المقدرة..
ليس سوى تلفيق..
وكل ما سمعته من قصص الشهامة
وعن سجايا حاتم
وعن حكايا عنترة.. لم يبق شيئ منه في المفكرة
وكل ما سمعت عن حروبنا المظفرة
وكرنا..
و فرنا..
وارضنا المحررة..
ليس سوى تلفيق..
هذا هو التاريخ, يا صديقتي
فنحن منذ ان توفى الرسول
سائرون في جنازة..
ونحن, منذ مصرع الحسين,
سائرون في جنازة..
ونحن, من يوم تخاصمنا
على البلدان..
والنسوان..
والغلمان..
في غرناطة
موتى, ولكن ما لهم جنازة !!

لا تثقي, بما روى التاريخ, يا صديقتي
فنصفه هلوسة..
ونصفه خطابة..
اطفالنا, ليس لهم طفولة
سماؤنا, ليس بها سحابة
نساؤنا.. ما زلن في ثلاجة الخليفة
عشاقنا..
يستنشقون وردة الكآبة
كتابنا, يحاولون القفز كالفئران
من مصيدة الرقابة..

لا تثقي , يا صديقتي
بكل ما تقوله الحكومة
فعزفها مكرر..
وصوتها نشاز..
المخبرون.. كسروا عظامنا
وشعبنا..
يمشي على عكاز..

صديقة العمر التي..
اقرأ في عيونها المأساة
صديقة العمر التي تقتسم المنفى معي..
والحزن .. والشتات..
نحن شعوب تجهل الفرح
اطفالنا ما شاهدوا في عمرهم
قوس قزح..
هذي بلاد اقفلت ابوابها..
والغت التفكير عند شعبها
والغت الاحساس..
هذي بلاد تطلق النار على الحمام..
والغمام..
والاجراس..

ما طار طير عندنا..
الا اتذبح..
ولا تغنى شاعر بشعره..
الا انذبح..
هذي بلاد ..
ما بها مسيرة تمشي..
ولا ذبابة تطير من حي.. الى حي..
ولا امسية شعرية تعطي..
ولا اعراس…

هذي بلاد
نصفها زنزانة
ونصفها حراس..
تزوج الموتى نساء بعضهم
فاين راح الناس؟

تقول لي سائحة شقراء من فرنسا:
بلادكم اجمل ما شاهدت من بلدان
فالماء فيها ضاحك..
والورد فيها ضاحك..
والخوخ.. والرمان..
والياسمين عندكم,
يمشط الشعر على الحيطان..
فكيف في بلادكم
لا يضحك الانسان

أضف تعليق